كان الجو معتدلاً، لم يكن هناك لا أنين المصلوبين ولا نواح الموجوعين، فقط بضع مارة من حين لآخر، كان الجحيم وديعا لطيفا لا كما حدثنا وصوره لنا ابن تيمية، سنوات المقام الأرضي، والذي علمت فيما بعد أنه قدم تظلما إلى سلطات السماء بدعوى أن عدم مطابقة الجحيم للمعايير المتفق عليها، ولأن روتين الإدارة الأرضية قد تسلل إلى سماء، فقد أجلت قضية ابن تيمية قضيته وحده إلى موعد لاحق ريثما يدرس الملف بأناة أو هكذا ما قيل له على الأقل، وبغض النظر عن مشاكل ابن تيمية مع المعايير فقد كنت خلال هذه الجولة في ذهول شديد، ذلك أنني كنت قد هيئت نفسي لكل أشكال التعذيب التي تصورت والتي لم أتصور. إذ ارتكبت في حياتي ما يكفي من الأخطاء بشكل يخول لي مقاما دائما في هذا الذي يفترض أنه جحيم، فما من محرم إلا واقترفته وما من خط أحمر ولا أزرق إلا وانتهكته، كأني أقصد إلى ذلك قصدا لأن للحرام حلاوة لا يعرفها غير الضالين أمثالي، فقد توغلت في الخطيئة لسبب أجهله لحد الآن ربما هو كرهي لكل الطرق المعبدة. فهوايتي الأبدية هي الطرق الملتوية التي توصل إلى المجهول، حتى عندما كانت أني تبعتني بالعجين إلى الفرن وأنا ابن العاشرة، كنت أختار الطرق الملتوية والملتفة، طرق أفترض أنها الأقصر كنت أتجنب دائما السبيل المستقيم، لهذا سقطت من على الصراط في غمرة انشغالي بفراشة حطت على كتفي.
الأمر نفسه يحدث في الكلام حيث إنني أتجنب التعبير المباشر لسبب أجهله حتى وأنا في هذا المقام الجحيمي، حيث الحقائق تتبدى ناصعة البياض، أو هكذا خمنت على الأقل، وأنا في هذا الخضم، أي جحيم السؤال لا جحيم المقام، رأيت في زاوية جانبية وجه جد مألوف. اقتربت ثم اقتربت لأتفحصه عن قرب أو عن حب لا يهم، لم يكن غير الرجل غير دانتي مشغولا كعادته، لكن مع ذلك بدا الأمر مربكا فقد علمت أن الرجل قضى حياته يبحث عن الفردوس المفقود، فكيف تركه على بعد خطوات وجاء يواصل مهمته هنا بالجحيم، ولأول مرة منذ مقامي بهذا المكان عقدت العزم على صنع حسنة تشفع لي في المرور من الجحيم إلى الجنان لا لشيء إلا لأن بي فضولا لأعرف ما يدور في الجانب الآخر، وبعد تحية قصيرة وتعبير سريع عن مدى شغفي بالكاتب، سألته أما علمت أن مبتغاك وما تحب يوجد على بعد خطوات من هذا المكان، فاجئني الرجل ولم أفاجأ لمفاجئتي، عندما قال أعلم، من خلال هذه الكلمة بدا السؤال صريحا واضحا رغم أن كلمات لم تحمله. لماذا يا سيد دانتي تواصل بحثك عن الفردوس في هذا الجحيم وأنت تعلم أنه موجود على بعد أمتار قليلة من موقع قدميك، أجاب الرجل في ابتسامته اللطيفة، كنت دائما أعلم أن ما أحب خطوات مني حتى خلال مقامي الأرضي، لم أحب يوما الفردوس في ذاته كما أشيع، لكنني أحببت فكرت البحث عن الفردوس فكرة الفقد المتجدد، لقد اخترت طائعا البحث عما يحول الجحيم فردوسا، وقبل أن يتم المبدع كلامه كان ابن عربي واقفا بنظارته الأصيلة:
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم # على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد فالأمر واحد # وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذاباً من عذوبة طعمه # وذلك كالقشر والقشر صاين